U3F1ZWV6ZTQ4NjYzNjA2OTc3OTcwX0ZyZWUzMDcwMTIxMTI2NTc4OQ==

الكلـــــــــــــــــــمة

بنّاءة هدّامة هي الكلمة، تُحيي وتُميت، ترفع وتخفض، مشعلة نارًا، ومطفئة أوارًا، تُقيم وتُقعد، تهدي وتُضل. روحها من روح قائلها، وحياتها من حياته، تعظُم بعظمته، وتسمو بسموه، وتجمل بجماله. إنها مغيّرة نفوس، ومقلّبة قلوب، وسامية بأرواح، ومستولية على عقول.
فلا جرم أن يرى أدباء العربية في "القرآن" معينًا لا ينضب من جماليات المعاني والأفكار، فيستقي كل واحد منهم ما يقوّم به لسانه، ويَعْدِلُ به ميزانه، ويصوب به أفكاره، ويعلي به من شأنه، ويسامي به من خياله، ويهذب به من أذواقه، ويرهف به من أحاسيسه ومشاعره. فما من أديب في العربية إلا وله من القرآن نصيب قَلَّ أو كثر. فالقرآن هو كلمة الله الأخيرة لأهل الأرض، فلا كلام له سبحانه بعده، جمَع فيه الأزمان والأجيال، وقارب بين الآزال والآباد، وبشَّر بالسرمديات وبالخلود والأبديات. في كلماته قوّة من مطلق قواه، وعظمة وجلال من مطلق جلاله وعظمته، وومضات مهيبات من مطلق أنواره، وفيها من سبحات وجهه الكريم ما يحرق الأفئدة، ويهيج الأشواق، ويستنزف اللوعات دمًا، ويبتعث الأنَّات صراخًا: "إن هذا القرآن نزل بحزن، فإذا قرأتموه فابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا" (رواه ابن ماجه).
ولا شيء يستفز العربي ويجعله يهبُّ من هجعته كالكلمة البليغة؛ فهي كالروح الوضَّاءة تشعل في وجدانه هواجع اليقظة والانتباه، وتلهب فيه حماس الإقدام والاندفاع، فيرى ما لم يكن يراه، ويحس بما لم يكن يحسّه ويشعر به. فالكلمة البليغة عند العربي لها في نفسه من القدسية كقدسية أي شيء يقدَّس، ومن التعظيم كأي شيء عظيم، الأمر الذي جعل من مولد شاعر في قبيلة من قبائل عرب الجاهلية عيدًا احتفاليًّا يستدعي تزجية التهاني من قبل القبائل بعضهم للبعض الآخر. وليس اعتباطًا أن يختار عرب الجاهلية أنفس وأعظم ما قال شعراؤهم ليزيّنوا به جدران الكعبة أقدسِ بيت يحجّون إليه ويطوفون به، وكأنهم يرمزون بذلك إلى امتزاج العبقرية الدينية بالعبقرية الشعرية. ومن هنا جاء نعتهم للقرآن: "قمّة ما عرفه العرب من بلاغة بالشعر ولمحمد صلى الله عليه وسلم بالشاعرية".
إن العذاب الذهني الذي لا ينفك يشعل جحيمًا متسعرًا في أرواح أولئك العظماء من رجال الفكر والأدب، لا يُعبَّر عنه إلا بفخامة بلاغية، وكلمات مستقطعة من جمرات الروح المتسعرة. فالكلمة لا تكون بليغة إلا إذا كان المضمون الفكري بليغًا. فقد انتهت في هذا العصر -وإلى الأبد- بلاغة الألفاظ، وانتهت -وإلى الأبد- كذلك التقعّرات اللفظية التي شغلت أدباء العصور الميّتة من تاريخ الأمة، والتي يمكن وصفها بأنها جعجعة بدون طحن.

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة