U3F1ZWV6ZTQ4NjYzNjA2OTc3OTcwX0ZyZWUzMDcwMTIxMTI2NTc4OQ==

محمد حسين هيكل – الأديب السياسيّ المؤرّخ ورائد الكتابة في السيرة النبوية :

كتب مهدي شاكر العبيدي:
عن دار القلم بدمشق وضمن سلسلتها (علماء ومفكرون معاصرون ــ لمحات من حياتهم، وتعريف بمؤلفاتهم)، وبالتسلسل (11)، صدر كتاب (محمد حسين هيكل ــ الأديبُ السياسيُّ المؤرّخ ورائد التأليف في السيرة النبوية) لمؤلفه الدكتور محمد رجب البيومي.
وربّما هي المرة الأولى التي يعمد فيها صاحب دار نشر لمقاسمة المؤلف بعض جهده ولو بأدنى الحدود وأقلها، وذلك بتسجيل آرائه وتوضيحاته في هوامش المطبوع، ويعني هذا الحال أنـّه تصفحه جيدا ً، وراجع مسوّداته قبل إيعازه بترشيحها للطبع، كما صنع الأستاذ محمد علي دولة صاحب دار القلم بدمشق، في موافقته على نشر كتاب الدكتور محمد رجب البيومي عن الباحث الإسلامي والسياسي الجهير، فضلا ً عن تبريزه في المناظرة والجدل، ونبوغه في كتابة الرواية، وتبوّئه المنزلة الباذخة، وحيازته للصيت الذائع بين مفكري مصر ونقادها وأعلام أدبها البارزين والمتميّزين بأدائهم النثري المتفرّد بتوشُّجه هو وأمتن أساليب البيان في الأدب العربي القديم، ومصاقبته لعيون شواهد المحدثين من المنقطعين لإنتاج لقيات ذات ألمعيّة وأصالة واستمداد من روح عصرنا وإحسان تمثيله، عنيتُ به الدكتور محمد حـسين هيكل، ((واسمه بعد ليس مركبا ً، فهو نجل حسين أفندي هيكل من أعيان الطبقة الثانية في إقليم الدهقلية من أرياف مصر)) [1]، خلافا ً لما كنـّا نظنـُّه ونتوهـّمه، إنـّما يُدعى بين أترابه (محمدا ً) لا غير.
فأمّا هوامش الناشر، وأرجو أن تكون مشفوعة بعلم المؤلف ودرايته، فعشرة هوامش في أسفل الصفحات: (17، 18 [ ورد بها هامشان ]، 25، 27، 28، 82، 85، 98، 102)، فمنها ما يجزم بصحّة حقيقة من الحقائق اقتضى بيانها والتعريف بها استطراد المؤلف نفسه إليها، لكنـّه يمرُّ بها عجلان دون توضيح ؛ وكلـُّها تدلُّ على سعة ثقافة الناشر وإطلاعه الجمّ واتصاله بالحياة الأدبية، وكونه يحيا في غمارها، ويتأثر بما يعتورها من ملابسات ويطرأ عليها من تباينات في معارض الرأي تحوج شيئا ً من التفسير والإبانة، كمثل منطقه ورأيه: إنّ ((الشك العلمي كالذي قال به ديكارت، لا الشك الوهمي الخيالي الذي قال به طه حسين)) [2]، ولم لا يكون شكّ الأوّل وهميا ً خياليا ً أيضا ً ما دمنا نتعكز في التعبير عمّا يساورنا من الرأي على نمط من الكلم السائب غير المُحدّد؟!، غير أنـّني أخلص من المماحكات هذه إلى أنّ السيد الناشر متحفظ إلى حد ومعترض بشيء من المؤاخذة على مأثورات طه حسين في عهده الأوّل رغم معاونته للدكتور محمد الدسوقي في طبع كتابه (أيّام مع طه حسين) طبعة ثانية، مع أنّ الدكتور الدسوقي نفسه يسجّل في تقديمه لكتابه ذاك بعض ما تخاله دار القلم إيجابيات في مسيرته الفكرية ومواقف مشرّفة قمينة بالإكرام والمثوبة، من ناحية اعتزازه بتراث السلف الأوائل، وحثـّه الدارسين على الاسترفاد من علوم العربية، إلى جانب اختلافها معه من ناحية الدين والاعتقاد ؛ وأخيرا ً ما أشبه الرجل بالكتبي الشهير الراحل صاحب مكتبة المثنى ببغداد قاسم محمد الرجب، بخصوص خبرته بالمخطوطات ومعرفته بحياة المشاهير من أعلام الأدب العربي، على إقلاله من الكتابة وزهد فيها.
كما يرد في الصفحة (24) من الكتاب هامشٌ للمؤلف عن الشيخ علي الرازق مؤلف كتاب (الإسلام وأصول الحكم)، وأظنـُّه للناشر وليس للمؤلف، وذلك لورود هامش آخر قبله في الصفحة (18) ينتقد فيه الناشر المواقف التي يعتبرها هو مخزية للطفي السيد، يفيد أنـّه ((نجل حسن عبد الرازق باشا أحد الأعيان، وأحد مؤسّسي حزب الأمة الموالي للإنجليز))، وفي هاته القولة وتلك التي قبلها اتهام بالعمالة ومصانعة الأجنبي، وما يستتبع ذلك من ارتضاء خنوع مواطني البلاد للذلّ والاستعباد والمهانة، دون أن يهتاج حسُّهم الوطني وينبض فيهم عرقٌ من الإباء والكرامة، فيمدُّوا نحو أخوتهم في الوطن يد الغوث والإنجاد ؛ لكن ((ما هكذا تورد يا سعدُ الإبل)) [3]، وتمرّر الوقائع بمثل هذا التعميم.
يقول زكي مبارك في نقده لما جاء في كتاب (المنتخبات) لأحمد لطفي السيد، وهو رئيس حزب الأمة: ((كنـّا نسمع في عهد الحداثة أنّ حزب الأمة الذي تعبّر عنه الجريدة يُسالم الاحتلال، فهل في [ المنتخبات ] ما يؤيّد ذلك؟، وكان لطفي السيد رئيس تحرير لتلك الجريدة؟. كان حزب الأمة يمثل فكرة الاعتدال، ولكنّ مقالات لطفي السيد لا تشهد بأنـّه كان يُسالم الاحتلال، وكيف تجوز على من يقول: الديار محتلة بأجنبي، لا هو صريح نقدّر لشقائنا معه حدا ً، ولا نحنُ معه في الرجاء أو من اليأس في إحدى الراحتين؟!، كيف تجوز مسالمة الاحتلال على من يرثي مصطفى كامل أصدق الرثاء، ثمّ يعلن رأي قاسم أمين في وجيعة الشعب لوفاة مصطفى كامل فرصة لإذكاء الروح الوطني؟، كان لطفي السيد من أنصار الاعتدال لكنـّه لم يكن أبدا ً من المفرّطين في حقّ القومية، ومقالاته هي الوثائق الباقية لجهاده في سبيل الحرية والاستقلال. والناس يشهدون اليوم تمثال مصطفى كامل في أحد الميادين الجميلة، فمن يبلغهم أنّ لطفي السيد كان من أوّل الداعين لإقامة ذلك التمثال، مع أنـّه كان من خصوم الرئيس الأوّل للحزب الوطني)) [4].
فأمّا الكتابة عن هيكل المحاضر بمادة (القانون) في رحاب الجامعة المصرية القديمة في بـدء شبابه وتمرُّسـه بالعمل في المـحـامـاة مـن مكـتبه المُؤسّس في مـدينة (المنصورة) ومن غير احتياج للثروة والمال، سوى أن يسخو بثمرات علمه وتفقهه بالدستور، ودين مصر العام الذي تراكم بذمّتها للدول الغربية، نتيجة إزماع الخديوي إسماعيل فور تسنـُّمه الحكم على المباشرة بتحويل بلاد النيل قطعة مـن أوربا، وكذا سدر في الأحلام التي يعجز إمكانه وطاقته عن تجسيدها وتحقيقها وتصييرها واقعا ً، وأنّ إدارة الجامعة المصرية نفسها هي التي استدعته للمحاضرة في أروقتها، وذلك بسحبه من عمله الحرّ في المحاماة بصورة وقتية ولمدّة يومين في الأسبوع، يلمُّ أثناءها بالجامعة.
وكذلك رُصدُ تدرُّجه في عشرينيات القرن الفائت من القيام برئاسة تحرير جريدة (السياسة) لسان حال حزب الأحرار الدستوريين، بصنفيها اليومي المحيط بالشأن السياسي الطارئ والموقوت بزمنه تبعا ً لتوالي الحوادث والمتغيّرات بين آونة وأخرى، والملم بالجانب الثقافي أسبوعيا ً، والذي كـُتب لمواده وموضوعاته وسائر اهتماماته امتدادها مدى الأيّام، لا يكلُّ الناس أو يراودهم السأم والملل من معاودتها ومراجعتها تدقيقا ً وتأمُّلا ً وتمحيصا ً، فكان هيكل الصحفي الملتزم بنظام الصحافة وتقاليدها، والمستقطب لرعيل جم من أرباب القلم ودعاة الانفتاح والاستنارة بمستجدّات الحال الراهن من التنبُّه واليقظة الفكرية ودبيب الوعي في النفوس، فكان مُحرجا ً ومُطالبا ً بالتوفيق بين كون حزب الأحرار الدستوريين بؤرة لتجمُّع أصحاب المصالح من الشاخصين والمتصدّرين على رأس الأسر الأرستقراطية القادرة على إيفاد بنيها للدراسة وتلقي العلم والتحصيل في الخارج، وإلى جانبهم هذه الجمهرة الكاثرة من المجترئين على التصويح بالرموز والأنصاب والهياكل، والمناداة بحرية الفكر والتوجُّه العقلي الحر غير المتقيّد بشيء ونازل على مشيئته وحكمه، وذلك ثمرة إقامة أولئك الأبناء الموفدين إلى أوربا بين الأغراب المخالفين المُباينين في أعراف بيئتهم ونمط معيشتهم، لمعتاد حياتنا وتعاملنا مع بعضنا البعض.
وأثناء ذلك تخطـّف الموت واحدا ً من أبنائه، فوجد سلوته وعزاءه في جوس ديار العالم، وكان كتابه (ولدي) مستجمعا ً وحاويا ً لمجموع مشاهداته في أوربا، وإلمامه ببلدان لم يرها من قبل أو لم يهتبل وقتا ً للطواف بها أثناء ما كان بباريس للدراسة.
وصادف يومها أن اكتسح الوسط الأدبي والفكري والسياسي أيضا ً صدور كتابين خطيرين في غرضهما ومحتواهما، وصدما كثيرا ً من الأذهان الراكدة في وقتهما، وشغل بهما الناس زمنا ً طويلا ً، وربّما لحدّ هذا اليوم بعد تصرُّم أعوام طويلة، وهما: (في الشعر الجاهلي) للعميد طه حسين، و (الإسـلام وأصول الحكم) للشيخ الأزهري والقاضي في المحاكم الشرعية علي عبد الرازق ؛ وهما صنواه وأبين خلصائه ورصفائه، ودواعي الذمّة والنصرة تقتضيه بالذود عنهما بما استهدفا له من زراية وإنكار، أو على الأقل يهاود في دفع ما يتعرّضان له من ملاحاة واستلال من قدرهما ومقامهما الاجتماعي، وكان هو نفسه قد اعتراه ساعتها هوسٌ ذهني وانشغال بال بين السهوم والانخطاف بآثار الفراعنة المتجلية في الأهرامات المنتصبة على الدهر بكلّ ما يأتي به من هزاهز وأعاصير، إلى سائر سوابقهم في التحنيط الذي لم يهتد المكتنهون إلى سرّه بعد، فأوهم نفسه أنّ هذه المتبقيات رمز حضارة العرب المصريين الدارسة العافية، وحريُّ بنا أن ننزع لإحيائها وتجديدها، وبين أن يلفي في مجد العرب وما آثروه للإنسانية من استمساك بعقيدة الإسلام هو بدء تاريخ المصريين، فكانت مقالته الشهيرة (النور الجديد أيّان مطلعه) التي خصّ بها مجلة (الهلال) عام 1928م، واستلفتت نظر كاتب معروف هو إسماعيل مظهر، الذي علق عليها بإيضاحات حول ما انتهى له العلماء من فرضيّات بشأن الخالق الذي ينصرف الجميع نحوه بالعبادة والتهجُّد، مصرّحين أنّ باب الإنكار والتجديف مسدود بوجوههم، مهما دللوا عليه من قدرة وتفوق إن لم يكن بفضل توفيقه وعونه، هذه المقالة كانت نواة نزوعه إلى التمرُّس بالدراسات الإسلامية وتفصيله عن جهاد النبي محمد وخلفائه، بالإضافة إلى تأمُّلاته ومناجياته في كتابه الموسوم: (في منزل الوحي)، أثناء شخوصه إلى الديار المقدّسة بعد ذلك التاريخ بسنوات.
وإذ فرغ من تجسيد إعجابه بالآداب الغربية، وحمل شباب الأمة على السير وفقها في نتاجاتهم وإبداعاتهم، إلى جانب ما يحسنُ من الاسترفاد والنهل من الثقافة العربية ومعرفة مكوّناتها وعناصرها وتذوق أساليبها وقوالبها وصورها البيانية، وقاده ذلك إلى إماطة الحُجب المسدلة على وقائع التاريخ المصري بعد دخول الحملة الإسلامية المتوجّهة نحو بلاد النيل من قلب الجزيرة العربية، وحيث تجرّد وتبرّأ من ظنونه وهواجسه وأخطائه الفكرية حين انجرّ لشيء من الفهم المغلوط والانبهار الذي لا داعي له بمخلفات الفراعنة، التي قـد تمثل حصاد مرحلة ساذجة في تاريخ البشرية، واستكنه بالتالي ((إنّ تاريخنا الإسلامي هو وحده البذر الذي ينبت ويثمر، ففيه حياة تزكو وتربو، ولأبناء هذا الجيل نفوسٌ قوية تنمو فيها الفكرة الصالحة، لتؤتي ثمرها بعد حين)) [5]، والطريف على ما يقول إسماعيل مظهر أنـّه كان يتسامع في المجالس والمحافل عن تجديفه ومروقه وإلحاده!.
ومن وقائع ذلك الحين نزوع مفكري مصر لتكريم الشاعر أحمد شوقي، فعقدوا له مهرجان أدب، حضرته وفود من البلدان العربية من الشعراء والخطباء، وحفيت مجلة (السياسة) بمجمل ما ألقي في المهرجان ذاك من مباحث وفصول مقارنة ومشيدة بعبقرية شوقي ونبوغه مع الثناء على عاطفته الإسلامية واعتزازه بالمفاخر العربية إلى جانب تأييده لوحدة المسلمين زمن الخلافة الإسلامية أيّام انقادت أزمّتها لبني عثمان، مسدية من المآثر والانتصارات على قوى البغي والعدوان ما يظلُّ غرّة في جبين الدهر وشاهدا ً على حزم أولياء أمرهم ومضائهم وعلوّ همّتهم.
واستدعت الحاجة والتنادي لتلافي الإقفار الثقافي أن ينبري رهط من المعجبين لجمع قصائد شوقي التي هي غرر نتاجه وعطاء موهبته الفائقة، بما بينها وفيها من شعر الرثاء وإحساس الفجيعة بانطواء حياة المصلحين والحكماء والمخلصين من الساسة والكـُتـّاب الحصفاء اللامعين، والمجلين في نتاجهم النثري الممتاز، وأنداده من الشعراء المجوّدين، والبالغين الذرى في استنباطهم المعاني الدقيقة الأثيرة، وتحليقهم في سماوات الخيال الخصب، وتمكنهم من إسلاف المأثور الخالد الباقي من محكم المعاني وسامي العواطف ونبيل المشاعر، وانقطع الدكتور هيكل هذه المرة لاجتلاء (الشوقيات) بمجموعها، وكتابة مقدّمة لها، تعرّف بسماتها ومواصفاتها وميّزاتها من الجزالة ومتانة الأداء واستلهام معطيات قدامى المبدعين في صدقهم وأصالتهم وسلامة دوافعهم، واجترأ في سياق مقدّمته تلك على عدّه مرحلة الثورة العرابية ذات أثر مبين في نهضة الشعر العربي، وربّما اختلف ما نظم بعدها في تركيبه ولفظه ومضمونه عمّا نسج قبلها من شواهد لم يلزم أصحابها الجدّ ومفارقة الهزل والعبث والعاديّة في ترسُّلهم، ومعروف ما استتبع نتيجة فشلها من انتكاس للحركة الوطنية وخيبة أبناء وادي النيل في تحقيق حلمهم المنشود بالحرية التامة واستبعاد التدخـُّلات الأجنبية في شؤونهم، ومجرّد التنويه بها مقترنا ً بالتعاطف والإعجاب يعني تعـريضا ً بالسلطات القائمة وجزما بلا شرعية تنصيب من يمثلها في أعلى مرتبة من أحفاد محمد علي المتعاقبين بصفتهم الخديوية أو السلطانية أو الملكية.
ويذكرنا تقديمه المجترئ بمنواله في تبكيت حكومة حزب الشعب برئاسة صدقي باشا، وتنديده باستبدادها، فقرّع أزلامها بلهجته القاسية: ((إنّ هذه وزارة لا تقبلها أمة من البغايا)) [6]، وغيرها من المخاشنة والجفاوة، ومع ذلك كان يغادر ساحات المحاكم المنصوبة لمقاضاته وإدانته آيبا ً بالبراءة، ودون مجازفتها بالاقتصاص منه.
والمستعرض لمسعاه في طبع ديوان شوقي تتطلبه: سوائية الفطرة، ونقاء الطبع، وصدوره في مبادراته واستجاباته عن محض التجرُّد والتباعُد عن الدخل والتغرُّض، إذ يشتمل هذا الديوان على خريدة لشوقي، وهي درّته الغالية في مخاطبة (النيل)، وإشهار أفضاله وعوارفه في إخصاب الوادي، وتجمُّع السكان، وبناء الحضارة، وترادُف أجيال الوارثين على تعاقب الأزمان والدهور ؛ لكن لمن أهدى شوقي معلقته هذه من الشعر المعاصر؟، إنـّه خصّ بها المستشرق الإنجليزي (مرجليوث) مدرّس اللغة العربية بجامعة (أكسفورد) البريطانية، الرجل الذي لم ين الأستاذ الدكتور محمد رجب البيومي ــ في غير صفحة من كتابه عن هيكل ــ في تسفيهه والزراية به، لأنـّه افترى على الثقافة العربية والإسلامية بفشوه بدعة انتحال الشعر الجاهلي، واقتفاه فيها وجرى على منواله في ترويجها عميد الأدب العربي طه حسين، فاستفزّت مشاعر جمهرة عريضة من الحرّاص والغـُيُر ومعهم لفيفٌ من المتغرّضين والمتخرّصين والمتزمّتين والمنغلقين في مقصدهم وهواهم، فتصدُّوا جميعا ً لمحاججته وتفنيد دعواه، وكان لهذا الحدث الثقافي أثره في تنشيط حركة الأدب نتيجة التباري والصيال وسعيا ً وراء الصحاح من الحقائق، لكن لم لم يقف الدكتور هيكل عند تقديم شوقي لرائعته تقديما ً ضافيا ً بعض الشيء، ومن مستهله هذه العبارات: ((أيُّها الأستاذ الكريم، تذكرتُ [ أثينا ] مدينة الحكمة في الدهور الخالية، وأيّاما ً غنمناها على رسومها العافية وأطلالها البالية، فكأنـّي أنظر إلى المؤتمر، وعلماؤه الهالة، وأنت القمر، أو زمر الحجيج وأنت حادي الزمر، وأرى الملوك في الحفر، بنيانهم مصدوع الجُدر، وبيانهم نور البشر،…….)) [7].
غير أنّ الدكتور محمد حسين هيكل الذي اهتدى إلى الحقّ في سطور قليلة أجهز بها في وضوح على بدعة الانتحال، قائلا ً حسبما ينقل عنه الدكتور البيومي في كتابه عنه: ((إنـّها بعض الإسرائيليّات التي ابتدعها اليهود قبل الإسلام، ليربطوا بينهم وبين العرب بالاشتراك في أبوّة إبراهيم أجمعين)) [8].
إذن إذا كان هذا شأنه من تخليص مأثوراتنا من البهتان والتدليس، لم لم يعترض على مضمون رسالة شوقي وتبيين دلالة إقحامه لـ (مرجليوث) في قـضية (النيل)، وقصيدة شوقي هي السائرة بين يديه، وهو القائم بتجميع عيون شعره وإعدادها للطبع؟.
ويعقب هذه الماجريات بعد سنين، أن ينعقد الإجماع على ترشيح هيكل لتبوّئ منصب وزارة التربية والتعليم ضمن التشكيلة الوزارية برئاسة محمد محمود عام 1938م، فانبرى رفقته من الصحفيين لوداعه بمناسبة تركه المهنة المضنية في حفل أقاموه لهذا الغرض، وخطب رئيس تحرير جريدة (المقطم) خليل ثابت باسم الصحفيين، معبّرا ً عن جزعه وتأسُّفه لهذه المغادرة غير المتوقعة، قائلا ً: ((إنّ الدكتور هيكل كان صحفيا ً عظيما ً لكنـّه انحط حتى صار وزيرا ً)) [9]، فأين من يتسع صدره اليوم لسماع هذه الطرفة؟.
إنّ عهدي بتراث هيكل الأدبي والفلسفي يعود منذ تعلق أخداني من أبناء جيلي بتصفح قصّته الطويلة (زينب)، التي مللتها ولم أتمّ قراءتها لمزاج نفسي خاص، بعكس تهيامي بعمله الروائي الممتاز (هكذا خـُُلقت)، والذي غفل المؤلف عن درجه بمسرد مؤلفاته المطبوعة والمخطوطة بانتظار من يحييها ويطبعها، والذي أيضا ً استبشر بظهوره في سني خمسينيات القرن الفائت، الدكتور طه حسين، مبتغيا ً تجديد الصلة بينهما، وردم ما شاب علائقهما من الكدر والجفاء، وزعم أنور الجندي أنّ موضوع (رسالة إلى……..) من محتويات كتاب (مرآة الضمير الحديث) أو (نفوس للبيع) في طبعة ثانية، مملوءٌ ومشحون بالقدح وذمّ المسالك والتصرُّفات والمقصود به هو شخص هيكل لا سواه.
وبعدها توافرت بين يديّ في ظروف متباينة عينة من مؤلفات هيكل، يأتي من بينها سفرٌ نفيس في السيرة النبوية، فتراجم مصرية وغربية، والأوّل يتعاطف معه ويتأثر به جميع بني البشر ممّن ينشدون الصفاء النفسي والتخلص من التمزُّق والحيرة، وتبرُّؤ الوجدان من الأوغار والأضغان، فتعريف المؤلف بمضمونه مجرّد نجاوى أشبهت حال استغراق المتصوّفة وعكوفهم على أورادهم وأحزابهم، دون أن ينشغل باله بانتقاء ألفاظه وتركيب عباراته، إنـّما تجيء في صنيعه الفني بوحي التلقائية والترسُّل، وبمحض العفوية والطواعية.
ومن ثمّ وقعتُ رهن محفزات ودواع شتى لقراءة بقية كتبه: (ولدي)، (في منزل الوحي) (روسو)، وأخيرا ما طبع بعد غيابه الأبدي: (الإيمان والمعرفة والفلسفة، و (الشرق الجديد) ؛ وشرعتُ في أوائل ثمانينيات القرن الماضي بكتابة مبحثين في تحليل أدبه وفكره، الأول بعنوان: (محمد حسين هيكل في ذكراه)، بمناسبة ما تناهى إلى علمي عن احتفال نخبة من الدارسين في مصر بذكراه العطرة عام 1983م، بعد ست وعشرين سنة على رحيله في ديسمبر 1956م ؛ والثاني عنوانه: (الشرق الجديد) حين سماعي باعتزام جامعة الأزهر بالقاهرة عقد ندوة عن السيرة النبوية عام 1985م، والاحتفال بمرور مائة عام على مولد الدكتور محمد حسين هيكل أوّل رائد للتفصيل حول السيرة النبوية في العصر الحديث، ونشرتهما على التوالي في الصفحة الأدبية لجريدة (العراق) المحتجبة، معزّزا ً الثاني بصورة أخذت لهيكل أثناء إلمامه بالصحن الكاظمي ببغداد، غداة مروره بها في طريقه إلى الهند، حين دُعي لزيارتها وحضور مؤتمر (غاندي) آنذاك في غضون عام 1953م، وكان بجانبه وفي طليعة مستقبليه والمرحّبين به، بل المبهورين المفتخرين بوجوده بينهم، هو المرحوم السيد عبد المهدي المنتفجي، عضو مجلس الأعيان في المملكة العراقية وقـت ذاك، وبضعـة أفـراد مـن معتمري (الكشائد)، شخـّصهم بسيماهم وعرف أسماءهم الدكتور كامل مصطفى الشيبي، بمجرّد نظره للصورة وإمعانه فيها وتمحيصها، وطالعتني تلك الصورة في صحائف كتاب ضخم أصدره المجمع اللغوي في القاهرة، يضمُّ ما قيل في نعيه وتأبينه من عيون الشعر والخطب.
*********************************
الهوامش
_________
[1]. حافظ محمود ــ (عمالقة الصحافة)، كتاب الهلال (284) / 1974م، صفحة (10).
[2]. هامش الصفحة (80) من الكتاب.
[3]. مثل عربي قديم.
[4]. (زكي مبارك ناقدا ً ــ دراسات نقدية تنشر للمرّة الأولى) للدكتور زكي مبارك ــ تقديم كريمة زكي مبارك، مطبوعات دار الشعب بالقاهرة، الطبعة الأولى / 1978م، صفحة (56).
[5]. من مقدمة كتاب (في منزل الوحي) لهيكل.
[6]. حافظ محمود ــ (عمالقة الصحافة)، كتاب الهلال (284) / 1974م، صفحة (14).
[7]. من رسالة شوقي إلى المستشرق (كارل مارغليوث)، (الشوقيات) الجزء الثاني، صفحة (63)، طبعة دار الفكر بالقاهرة، دون الإشارة إلى سنة الطبع.
[8]. صفحة (86).
[9]. حافظ محمود ــ (عمالقة الصحافة)، كتاب الهلال (284) / 1974م، صفحة (14).
تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة