يموت المرء بيولوجيًا من خلال عامل فيزيقي، بأن يموت مثلًا عن طريق مرض ما، أو حادثة، أو حتى انتحارًا. وهذا ما يسمى موتًا طبيعيًا؛ لكن نادرًا ما نجد أشخاصًا يرون في الموت وجودًا من أجل ذاته، وذلك ليس حبًا في الموت، بل إيمانًا بالتحول الإنساني في الموت من الفيزيقي إلى الميتافيزيقي، إنهم أشخاص ماتوا من خلال عامل ميتافيزيقي، ماتوا من أجل (المبدأ المطلق). لقد كان لدى هؤلاء الأشخاص رؤى حول فلسفة للموت عبر مبدأ مطلق تمسكوا به دفاعًا عن قناعتهم، واتصالاً بالفعل المطلق. ويبين هذا المقال كيف أن هناك نماذج استطاعت بموتها أن تترك للجميع فلسفة ميتافيزيقية حول الموت. وفي موتهم خلودهم، وعظماء أولئك
الذين استطاعوا أن يخلدوا أنفسهم، ويربطوا ذواتهم بمبدإ متجرد من كل الأهداف (الذاتية والموضوعية) التي غوت إيمانهم وطريقهم. أولئك الأشخاص لم يخلدوا أنفسهم بالمعنى التاريخي؛ بل خلدوا أنفسهم بالمعنى المطلق للخلود، لأنه خلود تعالت فيه الذات عن الغايات المرجوة. وأن تتعالى الذات عن الغاية معناه أنهم أشخاص عرفوا كيف يموتون موتاً غير تقليديًّ.
الأمر تمثل لهؤلاء الأشخاص في مسألة اكتشاف الوجود في ذاته عبر الحرية، فأصبح يمثل قرارا خاصا جداً، لأن تلك المسألة أضحت بالنسبة إليهم فرصة واحدة للخلاص.
يحمل المسيح صليباً فوق ظهره وسط حشود الرومان، عن قرار خالص منه، ليتجه نحو الخلاص، خلاصه المطلق. إنه فعل ذلك وفاءً لإيمانه، وفاءً لذلك "الوجوب المطلق" كما يلفظها كارل ياسبرز. لقد حدث هذا غالباً بناءً على أمر مثير للحماسة صادر عن سلطة هي موضع الإيمان، حيث أن الإيمان بهذه السُلطة يغدو منبع المطلق. هذا السياق في التاريخ، قد اتبعه بعض الأشخاص مثل سقراط، سينيكا، الحلاج، بوسييه، وجيوردانو برونو.. وغيرهم. لقد ضحوا وفاءً لإيمانهم، بالرغم أن قليلاً من التزحزح عن هذا الوفاء سيكسبهم حياتهم. هؤلاء خاطروا بحياتهم طاعة "لوجوب مطلق". إنهم رأوا في طاعاتهم لهذا الوجوب المطلق وعدم التخلي عن إيمانهم يمثل قيمة أبدية، كإرادة الله، قيمة مطلقة شذت عن كل ما هو نسبي. لقد وقفوا فرادى أمام المجتمع وسلطته، أمام الغايات الغاوية، وأمام الموت، إيمانا بذلك الفعل المطلق.
هذا الفعل وجدوا به أن الحياة نسبية. وعندما يكون الأمر متعلقاً بجعل المطلق أمراً واقعاً، تصبح الحقيقة الاختيارية مادة الفكرة، الحب، والوفاء. إنها تجد نفسها متضمنة في معنى أبدي وكأنها قد اُمتُصت، ولم تعد متروكة لنزوات الحياة عارية عن كل شيء. هنا يمكن للالتزام المطلق - في الحدود القصوى - وفي حالات استثنائية، أن يقود المرء حتى إلى رفض العالم الواقعي وإلى قبول موت لا مفر.
إن الموت من أجل غاية، أو إثبات أمر من الأمور يحتمل غائية، وبالتالي شائبة. فمثلاُ هناك البعض من الذين يزعمون أنهم يقتفون أثر المسيح، يخضعون في الواقع إلى مطمح من هذه المطامح التي تُغرق النفس في الظلمة. أما من ذكرنا، فإنهم تخطوا الغاية نفسها، وتخطوا المراد بفعل شعورهم المطلق، إنهم تفلسفوا، نقوا ضميرهم، ويمموا وجوههم نحو الوجود ذاته.
نادرًا ما نجد أشخاصًا يرون في الموت وجودًا من أجل ذاته، وذلك ليس حبًا في الموت، بل إيمانًا بالتحول الإنساني في الموت من الفيزيقي إلى الميتافيزيقي
لعل أنقى وجه بشري لهذا هو وجه سقراط. فقد حمل كأس الموت بيده، ولا فرق بين اليد التي حملت الكأس لأجل الموت، وبين اليد التي حملت الصليب للأمر ذاته. إنها يد وفية مخلصة لإيمانها، مخلصة لذلك الأبدي المطلق.
قد تابع سقراط، وهو الذي كان يحيا في وضوح عقله، بشامل عباراته "أنا لا أعرف شيئاً"، تابع طريقه دون أن يدع يقينه يضل أو يشوش بفعل الأهواء العنيفة التي تصدر عن أناس يغضبون ويكرهون ويريدون أن يكون الحق معهم بأي ثمن، فلم يتنازل عن شيء، ولم يتلقف إمكان الهرب الذي كان معروضاً عليه، ومات بهدوء، متجشماً هذا الخطر باسم إيمانه.
وسينيكا نموذج آخر أيضاً، حيث انتظر سنوات في الحكم عليه بالموت. دون أن يفقد السيطرة على نفسه، عندما أصدر نيرون قراراً بإعدامه. كان يستطيع سينيكا أن ينقذ حياته بأن ينحدر إلى عمل لا يرضى به، لكن وفاء لإيمانه تقبل الموت.
هؤلاء الفلاسفة الذين وقفوا وحيدين أمام الله، دون أن يكونوا منتسبين بصورة أساسية إلى جماعة دينية منظمة في العالم. ويحققون المبدأ القائل؛ التفلسف؛ يعني أن تتعلم الموت.
لقد شجبت محاكم التفتيش "جيوردانو برونو" كمعلم للمذاهب الملحدة، وفي محاكمته طُلب منه أن يتخلى عن ثمانية مقترحات هرطقية يتم اختيارها من كتاباته ومن البيانات التي تم تقديمها إلى المحققين. لكن برونو كان رده أنه "لا يرى أي سبب لتغيير رأيه" فتمت إدانته وإحراقه في حضور عدد كبير من الناس الذين كانوا مجتمعين في روما من أجل اليوبيل. لقد انتصر برونو على شكه، وبعد أن رضخ بعض الرضوخ، اتخذ قراراً عميقاً بأن يصمد صموداً لا يتزعزع ودون أمل حتى فوق المحرقة. لقد نظر برونو في المطلق عندما وقع الاختيار، فاتخذ قراراً أصبح به هو جوهر إنساني. لقد رأى، كأمثاله، أن روحه الفردية مشتملة في المطلق، وأن هذه الروح مكون أساسي في حياته الخاصة.
في القرن السابع عشر، كانت هناك مؤامرة من الصمت حول برونو وسمعته. ظهرت هذه المؤامرة عادة في أنه شخصية ساحر شيطاني، وقد تردد أنه ألقى كلمة في مدح الشيطان في فيتنبرغ (لقد سمع الفيلسوف فيلهلم ليبنتز هذه القصة). في القرن التاسع عشر تم تصنيفه من قِبل جون تولان[1]كمسيحي. أعاد القرن التاسع عشر اكتشاف برونو من خلال قراءة معتقداته ومواقفه الخاصة في أعماله. في ذلك الوقت بدا أنه شهيد للعلم الحديث والنظرية الكوبرنيكية. وتم نصب التماثيل على شرفه من قِبل مناهضين في إيطاليا.
هؤلاء الأشخاص وقفوا وحيدين في لحظات موتهم، ليس معهم إلا تلك السُلطة التي دفعتهم إلى ذلك القرار عن عدم التخلي عن إيمانهم، ليس معهم إلا هذا الشعور الذي كان غامضاً في بداية الفعل المطلق هذا، ثم أصبح واضحا في النهاية، وعندما يُكمل هذا الوعي تماماً في المطلق، يسود اليقين من معنى الوجود. هذا المطلق سابق على كل غائية، وهو الذي يحدد الغايات. فالمطلق ليس ما هو مراد، ولكنه ما يلهم فعل الإرادة.
لكن ما هي طبيعة هذا "الوجوب المطلق"؟ يجيبنا ياسبرز هنا، فيقول:
"إذا سألت: ماذا يجب أن أفعل؟ فإنني أتلقى جواباً قوامه أن يدل على غايات محدودة، وعلى وسائل تحقيق هذه الغايات. ينبغي أن أكسب قوتي ولهذا ينبغي أن أعمل... وفي كل مرة أفعل ذلك، الغاية هى التي تحدد شروط استخدام الوسائل الملائمة.. لكن أن نحيا ليس بحد ذاته غاية أخيرة، لأن سؤالاً يفرض نفسه أيضاً: أي نوع من الحياة؟ وأيضاً من أجل أية غاية؟". ياسبرز هنا يرمي إلى أن هناك وجوب يرفع الإنسان إلى هذا الفعل، لكن هذا الوجوب هو وجوب نسبي، لأنه مرتبط بغايات، وأنه مرن، لأن المرء فيه يستخدم وسائل تتناسب مع تحقيق الفعل، وهذا في حد ذاته ليس غاية أخيرة مرجوة للحياة.
يمكن أن يكون أساس الوجوب سلطة خارجية - كما يقول ياسبرز - ينبغي علي أن أطيعها، كأمر من أحدهم يقول لي: "هذه إرادتي" أو هذا "مكتوب". إن سلطة من هذا النوع ليست موضوع بحث وتظل بالتالي غير مراقبة. فكل وجوب من هذا القبيل؛ وجوب نسبي. إنه يجعلنى تابعاً لشيء آخر غير نفسي، لغايات عملية، أو لسلطة ما. أما الوجوب المطلق؛ فمنبعه، على العكس، في ذاتي. إنه يواجهني وكأنه حقيقة واقعة محددة أستطيع أن أجعل سلوكي منسجماً معها خارجياً. إنه يأتي من أعماق الأنا، ويحملني داخلياً بما هو فيَ، أكثر من الأنا نفسه.
أعماق الأنا هذه التي يشير إليها ياسبرز هي موضع الإيمان، وبالتالي هي أساس العمل المطلق، والذي يصبح بدوره خارج مجال المعرفة. "إن حياتي لا تتفرع من المطلق إلا إذا كانت تتغذى من نبع لا يقبل التبرير بصورة موضوعية...وكما أن الشجرة ذات العلو الشاهق تمد جذورها في الأعماق، كذلك يمد من يكون إنساناً حقاً جذوره عميقة في المطلق".
إن المطلق يعني مشاركة الأبدي في الوجود، فمنه يجري إذن وفاء يمكن الاعتماد عليه دون تحفظ. هذا المطلق لا يكمن في الصفة الفطرية، لأن هذه يمكن أن تتبدل في سياق ولادة ثانية. إن كل أشكال الهوى، والمصلحة الحيوية، وتأكيدات الذات، مهما كانت قوتها؛ ليست مع ذلك مطلقة في اللحظة، بل نسبية وبالتالي فانية. إذن، المطلق ليس إلا في قرار الوجود الإنساني، القرار الذي مر بالتأمل، إنه يأتي من الحرية. هذا المطلق لا زماني في الزمان - كما يرى ياسبرز - لأنه لا يكتمل إلا عندما يتوصل الإنسان إلى الانتصار على نفسه وإلى إتباع السبيل الذي يصبح القرار المطلق فيه لا يتزعزع.
السؤال الآن: كيف يتحقق هذا الوجوب المطلق؟
يمكننا أن نستخلص الإجابة لهذا السؤال من خلال الدمج بين لسان حال كل من إيمانويل كانط وياسبرز.
يتحقق ذلك المطلق من خلال ثلاث مظاهر معاً والموازنة بينهم؛ أولهما أن يسيطر المرء على ميوله الطبيعية بإرادة خاضعة للقوانين الخلقية، وبالتعابير الكانطية: "تعارض الواجب مع الميل"، وهو ما يسميه كانط التردد بين الرغبات والميول، وهو نوعان: تردد ناشئ عن التعارض المعتاد بين الرغبات والميول، وتردد ناشئ عن التعارض بين الرغبات والميول الطبيعية وبين شعورنا بالواجب. ثانيهما: أن تكون البواعث صادقة، حيث لا يتعارض صفاء المطلق مع عدم الصفاء الذي يسود في العلاقة الشرطية المقلوبة، والتي بفضلها يجد المطلق نفسه تابع للنسبي؛ أو ما يسميه كانط "خبث الطوية"، والذي يعد، في نظره، شراً. خبث الطوية الذي يقوم على عمل الخير فقط، عندما لا يتعرض المرء في ذلك لأية خسارة، أو على الأقل إذا كان لا يكلف غالياً. وهذا يعني بتعابير مجردة أن المرء يمنح ولاءه للوجوب الخلقي المطلق، ولكن بإطاعة قانون الخير بصورة شرطية وحسب؛ يطيعه فقط إلى الحد الذي يمكن ألا يضايق إرضاء حاجاته ومسراته المادية. يريد المرء أن يكون خيراً ولكن بهذا الشرط: ألا يكون ذلك بصورة مطلقة، وهذه حالة يمكن أن يكون للمرء فيها أن يمنح نفسه مسرة كونه خيراً. لهذا، أراد كانط أن يكون أساس الأخلاق هو الطهارة المطلقة للقلب والنية. يبين ياسبرز ذلك، فيقول: "لعلني في حالة الصراع بين الوجوب الخلقي ومصالحي الإيجابية، أن أكون مستعدّا لاقتراف أي إثم، دون أن أعترف بذلك لنفسي، وذلك حسب ضخامة المصالح المعرضة للخطر. إنني أقتل، عندما يصدر إلي الأمر بالقتل، كي لا أموت أنا نفسي. ولكن الحالة المفضلة التي أجد نفسي فيها، والتي تجنبني كل صراع، تسمح لي أن أجهل الشر في نفسي... وبالمقابل يكون الخير في أن ينتزع المرء نفسه من هذا الفساد القائم في العلاقة الشرطية التي تجعل المطلق مرتبطاً بشروط السعادة الأرضية، وفي أن يعثر على المطلق الصحيح".
أما المظهر الثالث: فهو ذو طبيعة ميتافيزيقية، وهنا يتعلق الأمر بماهية البواعث، فمثلا يتعارض الحب مع الحقد؛ الحب يميل نحو الوجود، والحقد نحو العدم. الحب يُعظم بعلاقاته نحو العلو. أما في الحقد، فإن الأنا تنحدر إلى نقطة مفتونة بذاتها ومنفصلة عن العلو.
في كل مرة يجد المرء نفسه أمام أحد الأمرين في ثنايا تلك المظاهر الثلاث وضرورة اتخاذ قرار، حيث حينها يقع المرء في الاختيار؛ فهو إما يطيع ميله أو واجبه، يبقى في خبث الطوية أو يستعيد صفاء بواعثه، يحيا بالحقد أو بالحب، لا يستطيع المرء حينها أن يريد إلا هذا أو ذاك، حتى وإن تحاشى القرار ليؤلف بين الاختيارين، فإن هذا التحاشي يؤدي إلى الشر بحد ذاته.
إذن نجد المسألة لدى هؤلاء الفلاسفة ليست التمييز بين الخير والشر؛ بل المسألة تتلخص في المبدأ المطلق ذاته، حتى وإن تعارض مع فكرتي الخير والشر؛ وكأن المطلق يعنى الجانب الميتافيزيقي للوجود، حتى وإن تمثل هذا المبدأ في الموت، إنه يعني بالنسبة لهم السرمدي (الأزلي، الأبدي). هم رأوا أيضاً، أن على الإنسان أن يغدو عين ذاته عندما يعبر بجزم بأفعاله إلى أين يريد أن يمضي. هكذا؛ هؤلاء المتفلسفين في الموت قد رأوا ذلك المطلق بعين الوجوب، وبعين بصيرتهم، فانصاعوا له عن يقين، وطيب خاطر، وشجاعة كسرت الموت بفعل تلك الإرادة المحمومة بالأبدي. إنهم عرفوا كيف يموتون، وها نحن عرفنا كيف يعيشون بيننا الآن.
مصادر المقال:
- سناء خضر، إشكالية الضمير وعلاقتها بالواجب عند كانط، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 2005، ص 123
- كارل ياسبرز: مدخل إلى الفلسفة، ترجمة/ جورج صدقني، مكتبة أطلس للنشر والتوزيع، د ت.
- Frances A. Yates: Encyclopedia of Philosophy (bruno, Giordano), Editor in Chief/ DONALD M. BORCHERT, volume 1, Macmillan Reference USA.
- Thomas Whittaker: Giordano Bruno, Oxford University Press on behalf of the Mind Association, Vol. 9, No. 34 (Apr., 1884), pp. 236-264
[1]- جون تولان: مؤرخ وأكاديمي فرنسي، متخصص في التواصل الثقافي والديني بين العالمين العربي واللاتيني في القرون الوسطى، من مؤلفاته: "أوروبا والإسلام: تاريخ خمسة عشر قرنا".
إرسال تعليق